كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



لقد واجه اليهود الإسلام بالعداء منذ اللحظة الأولى التي قامت فيها دولة الإسلام بالمدينة. وكادوا للأمة المسلمة منذ اليوم الأول الذي أصبحت فيه أمة. وتضمن القرآن الكريم من التقريرات والإشارات عن هذا العداء وهذا الكيد ما يكفي وحده لتصوير تلك الحرب المريرة التي شنها اليهود على الإسلام وعلى رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم وعلى الأمة المسلمة في تاريخها الطويل؛ والتي لم تخبُ لحظة واحدة قرابة أربعة عشر قرنا، وما تزال حتى اللحظة يتسعر أوارها في أرجاء الأرض جميعًا لقد عقد الرسول صلى الله عليه وسلم أول مقدمه إلى المدينة، معاهدة تعايش مع اليهود؛ ودعاهم إلى الإسلام الذي يصدق ما بين أيديهم من التوراة.. ولكنهم لم يفوا بهذا العهد- شأنهم في هذا كشأنهم مع كل عهد قطعوه مع ربهم أو مع أنبيائهم من قبل، حتى قال الله فيهم: {ولقد أنزلنا إليك آيات بينات وما يكفر بها إلا الفاسقون. أو كلما عاهدوا عهدًا نبذه فريق منهم بل أكثرهم لا يؤمنون. ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون} ولقد أضمروا العداء للإسلام والمسلمين منذ اليوم الأول الذي جمع الله فيه الأوس والخزرج على الإسلام، فلم يعد لليهود في صفوفهم مدخل ولا مخرج، ومنذ اليوم الذي تحددت فيه قيادة الأمة المسلمة وأمسك بزمامها محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم تعد لليهود فرصة للتسلط!
ولقد استخدموا كل الأسلحة والوسائل التي تفتقت عنها عبقرية المكر اليهودية، وأفادتها من قرون السبي في بابل، والعبودية في مصر، والذل في الدولة الرومانية.
ومع أن الإسلام قد وسعهم بعد ما ضاقت بهم الملل والنحل على مدار التاريخ، فإنهم ردوا للإسلام جميله عليهم أقبح الكيد وألأم المكر منذ اليوم الأول.
ولقد ألبوا على الإسلام والمسلمين كل قوى الجزيرة العربية المشركة؛ وراحوا يجمعون القبائل المتفرقة لحرب الجماعة المسلمة: {ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا} ولما غلبهم الإسلام بقوة الحق- يوم أن كان الناس مسلمين- استداروا يكيدون له بدس المفتريات في كتبه- لم يسلم من هذا الدس إلا كتاب الله الذي تكفل بحفظه سبحانه- ويكيدون له بالدس بين صفوف المسلمين، وإثارة الفتن عن طريق استخدام حديثي العهد بالإسلام ومن ليس لهم فيه فقه من مسلمة الأقطار. ويكيدون له بتأليب خصومه عليه في أنحاء الأرض.. حتى انتهى بهم المطاف أن يكونوا في العصر الأخير هم الذين يقودون المعركة مع الإسلام في كل شبر على وجه الأرض؛ وهم الذين يستخدمون الصليبية والوثنية في هذه الحرب الشاملة، وهم الذين يقيمون الأوضاع ويصنعون الأبطال الذين يتسمون بأسماء المسلمين، ويشنونها حربًا صليبية صهيونية على كل جذر من جذور هذا الدين!
وصدق الله العظيم: {لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا}.
إن الذي ألب الأحزاب على الدولة المسلمة الناشئة في المدينة؛ وجمع بين اليهود من بني قريظة وغيرهم؛ وبين قريش في مكة، وبين القبائل الأخرى في الجزيرة.. يهودي..
والذي ألب العوام، وجمع الشراذم، وأطلق الشائعات، في فتنة مقتل عثمان رضي الله عنه وما تلاها من النكبات.. يهودي..
والذي قاد حملة الوضع والكذب في أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي الروايات والسير.. يهودي..
ثم إن الذي كان وراء إثارة النعرات القومية في دولة الخلافة الأخيرة؛ ووراء الانقلابات التي ابتدأت بعزل الشريعة عن الحكم واستبدال «الدستور» بها في عهد السلطان عبدالحميد، ثم انتهت بإلغاء الخلافة جملة على يدي «البطل» أتاتورك.. يهودي..
وسائر ما تلا ذلك من الحرب المعلنة على طلائع البعث الإسلامي في كل مكان على وجه الأرض وراءه يهود!
ثم لقد كان وراء النزعة المادية الإلحادية.. يهودي.. ووراء النزعة الحيوانية الجنسية يهودي.. ووراء معظم النظريات الهدامة لكل المقدسات والضوابط يهود!
ولقد كانت الحرب التي شنها اليهود على الإسلام أطول أمدا، وأعرض مجالا، من تلك التي شنها عليه المشركون والوثنيون- على ضراوتها- قديما وحديثا.. إن المعركة مع مشركي العرب لم تمتد إلى أكثر من عشرين عاما في جملتها. وكذلك كانت المعركة مع فارس في العهد الأول. وأما في العصر الحديث فإن ضراوة المعركة بين الوثنية الهندية والإسلام ضراوة ظاهرة؛ ولكنها لا تبلغ ضراوة الصهيونية العالمية.
«التي تعد الماركسية مجرد فرع لها» وليس هناك ما يماثل معركة اليهود مع الإسلام في طول الأمد وعرض المجال إلا معركة الصليبية، التي سنتعرض لها في الفقرة التالية.
فإذا سمعنا الله سبحانه يقول: {لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا}.
ويقدم اليهود في النص على الذين أشركوا.. ثم راجعنا هذا الواقع التاريخي، فإننا ندرك طرفًا من حكمة الله في تقديم اليهود على الذين أشركوا!
إنهم هذه الجبلة النكدة الشريرة، التي ينغل الحقد في صدورها على الإسلام، وعلى نبي الإسلام، فيحذر الله نبيه وأهل دينه منها.. ولم يغلب هذه الجبلة النكدة الشريرة إلا الإسلام وأهله يوم أن كانوا أهله!.. ولن يخلص العالم من هذه الجبلة النكدة إلا الإسلام يوم يفيء أهله إليه..
{ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى. ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون. وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين. وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين. فأثابهم الله بما قالوا جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء المحسنين. والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم}.
إن هذه الآيات تصور حالة، وتقرر حكما في هذه الحالة.. تصور حالة فريق من أتباع عيسى عليه السلام: {الذين قالوا إنا نصارى}.. وتقرر أنهم أقرب مودة للذين آمنوا..
ومع أن متابعة مجموع الآيات لا تدع مجالا للشك في أنها تصور حالة معينة، هي التي ينطبق عليها هذا التقرير المعين، فإن الكثيرين يخطئون فهم مدلولها، ويجعلون منها مادة للتميع المؤذي في تقدير المسلمين لموقفهم من المعسكرات المختلفة، وموقف هذه المعسكرات منهم.. لذلك نجد من الضروري- في ظلال القرآن- أن نتابع بالدقة تصوير هذه الآيات لهذه الحالة الخاصة التي ينطبق عليها ذلك الحكم الخاص:
إن الحالة التي تصورها هذه الآيات هي حالة فئة من الناس، قالوا: إنا نصارى. هم أقرب مودة للذين آمنوا: {ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون}.. فمنهم من يعرفون حقيقة دين النصارى فلا يستكبرون على الحق حين يتبين لهم..
ولكن السياق القرآني لا يقف عند هذا الحد، ولا يدع الأمر مجهلا ومعممًا على كل من قالوا: إنا نصارى.. إنما هو يمضي فيصور موقف هذه الفئة التي يعنيها:
{واذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين. وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين}.
فهذا مشهد حي يرتسم من التصوير القرآني لهذه الفئة من الناس، الذين هم أقرب مودة للذين آمنوا.
إنهم إذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول من هذا القرآن اهتزت مشاعرهم، ولانت قلوبهم، وفاضت أعينهم بالدمع تعبيرا عن التأثر العميق العنيف بالحق الذي سمعوه. والذي لا يجدون له في أول الأمر كفاء من التعبير إلا الدمع الغزير- وهي حالة معروفة في النفس البشرية حين يبلغ بها التأثر درجة أعلى من أن يفي بها القول، فيفيض الدمع، ليؤدي ما لا يؤديه القول؛ وليطلق الشحنة الحبيسة من التأثر العميق العنيف.
ثم هم لا يكتفون بهذا الفيض من الدمع؛ ولا يقفون موقفا سلبيا من الحق الذي تأثروا به هذا التأثر عند سماع القرآن؛ والشعور بالحق الذي يحمله والإحساس بما له من سلطان.. إنهم لا يقفون موقف المتأثر الذي تفيض عيناه بالدمع ثم ينتهي أمره مع هذا الحق! إنما هم يتقدمون ليتخذوا من هذا الحق موقفا إيجابيا صريحا.. موقف القبول لهذا الحق، والإيمان به، والإذعان لسلطانه، وإعلان هذا الإيمان وهذا الإذعان في لهجة قوية عميقة صريحة:
{يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين. وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين}.
إنهم أولًا يعلنون لربهم إيمانهم بهذا الحق الذي عرفوه. ثم يدعونه سبحانه أن يضمهم إلى قائمة الشاهدين لهذا الحق؛ وأن يسلكهم في سلك الأمة القائمة عليه في الأرض.. الأمة المسلمة، التي تشهد لهذا الدين بأنه الحق، وتؤدي هذه الشهادة بلسانها وبعملها وبحركتها لإقرار هذا الحق في حياة البشر.. فهؤلاء الشاهدون الجدد ينضمون إلى هذه الأمة المسلمة؛ ويشهدون ربهم على إيمانهم بالحق الذي تتبعه هذه الأمة؛ ويدعونه سبحانه أن يكتبهم في سجلها..
ثم هم بعد ذلك يستنكرون على أنفسهم أن يعوقهم معوق عن الإيمان بالله؛ أو أن يسمعوا هذا الحق ثم لايؤمنوا به، ولا يأملوا- بهذا الإيمان- أن يقبلهم ربهم، ويرفع مقامهم عنده، فيدخلهم مع القوم الصالحين:
{وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين}.
فهو موقف صريح قاطع تجاه ما أنزل الله إلى رسوله من الحق.. موقف الاستماع والمعرفة، ثم التأثر الغامر والإيمان الجاهر، ثم الإسلام والانضمام إلى الأمة المسلمة، مع دعاء الله سبحانه أن يجعلهم من الشاهدين لهذا الحق؛ الذين يؤدون شهادتهم سلوكًا وعملًا وجهادًا لإقراره في الأرض، والتمكين له في حياة الناس. ثم وضوح الطريق في تقديرهم وتوحده؛ بحيث لا يعودون يرون أنه يجوز لهم أن يمضوا إلا في طريق واحد: هو طريق الإيمان بالله، وبالحق الذي أنزله على رسوله، والأمل- بعد ذلك- في القبول عنده والرضوان.
ولا يقف السياق القرآني هنا عند بيان من هم الذين يعنيهم بأنهم أقرب مودة للذين آمنوا من الذين قالوا: إنا نصارى؛ وعند بيان سلوكهم في مواجهة ما أنزل الله الى الرسول صلى الله عليه وسلم من الحق؛ وفي اتخاذ موقف إيجابي صريح، بالإيمان المعلن، والانضمام إلى الصف المسلم؛ والاستعداد لأداء الشهادة بالنفس والجهد والمال؛ والدعاء إلى الله أن يقبلهم في الصف الشاهد لهذا الحق على هذا النحو؛ مع الطمع في أن يختم لهم بالانضمام إلى موكب الصالحين.
لا يقف السياق القرآني عند هذا الحد في بيان أمر هؤلاء الذين يقرر أنهم أقرب مودة للذين آمنوا. بل يتابع خطاه لتكملة الصورة، ورسم المصير الذي انتهوا إليه فعلًا:
{فأثابهم الله بما قالوا جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها. وذلك جزاء المحسنين}.
لقد علم الله صدق قلوبهم وألسنتهم؛ وصدق عزيمتهم على المضي في الطريق؛ وصدق تصميمهم على أداء الشهادة لهذا الدين الجديد الذي دخلوا فيه؛ ولهذا الصف المسلم الذي اختاروه، واعتبارهم أن أداء هذه الشهادة- بكل تكاليفها في النفس والمال- منة يمن الله بها على من يشاء من عباده؛ واعتبارهم كذلك أنه لم يعد لهم طريق يسلكونه إلا هذا الطريق الذي أعلنوا المضي فيه؛ ورجاءهم في ربهم أن يدخلهم مع القوم الصالحين..